• English
  • کوردی

كوردستان و كتالونيا أول ضحايا الرأسمال المسلح

كردستان

1/5/2018 7:24:00 PM

د.آزاد أحمد علي 

خلال أسبوع واحد تم إجراء عمليتي استفتاء على استقلال إقليمي كوردستان العراق وكتالونيا يومي (25/9-1/10) لعام 2017، بعدها بشهر واحد تحولت الكرنفالات الديمقراطية في البلدين إلى مأساة سياسية واجتماعية، بل شكل الاستفتاء بحد ذاته عبئا ثقيلا على مشروع وطموح الشعبين في التحرر وحق مجتمعاتهم في تقرير مصيرهم السياسي. فكانتا المحاولة الأخيرة لإنشاء دول قومية جديدة على خارطة العالم.

على العكس من السردية المكررة ذات العلاقة بالحالة الكوردية،المتلخصة في أن استقلال كوردستان شبه مستحيل في ظل الظروف الجيوسياسية المعقدة ومواقف الدول ما تحت الكولونيالية التي تطوق كوردستان جغرافيا وتتشارك في استغلال ثرواتها منذ أمد بعيد،بناء على هذا الافتراض، كان من المرجح أن تكون عملية استقلال كتالونيا حالة أوربية سلسة، تنقصها حفلة كوكتيل، أو كتحصيل حاصل لنقل السيادة من مدريد إلى برشلونة، أي مجرد إجراءات ديمقراطية ودستورية. لكن ما حدث لكتالونيا شكل مفاجأة وصدمة للمراقبين، أكثر مما أحدثتها عملية الغزو العسكري لإقليم كوردستان العراق ولاحقا فرض الحصار عليها.

على العكس من كوردستان في جوار كتالونيا لا يوجد حكم ولاية الفقيه ولا سلطة مطلقة لحزب أردوغان، كما أن جند المرجعية وفيلق القدس بعيدون تماما عن برشلونة. فضلا عن أنه لا توجد حقول نفط ولا اتفاقات سرية، ولا حتى عرف يثبت حق بريطانيا في استثمار نفط كركوك بهذه الطريقة أو تلك. لم يسقط مشروع استقلال كتالونيا بسبب غزو حشد المرجعيات الدينية المسلحة ولم يشرف على معاقبة برشلونة الجنرال قاسم سليماني. فأين تكمن إذن مشكلتي كتالونيا وكوردستان؟!

لقد نشرت العديد من التحليلات والسرديات حول النكسة السياسية التي حلت بمشروع استقلال كوردستان العراق، تعاطف وتفهم سياق الحدث العديد من الكتاب والساسة العرب، حيث كانت لمواقفهم النبيلة وقعها الطيب على نفوس الكورد المصدومين بلؤم الساسة الغربيين وفي مقدمتهم الثنائي تيرلسون – ماكورك، في حين لم تتأثر الأوساط الكوردية كثيرا بالمواقف والدعوات الخافتة التي تتصاعد من بعض الأوساط الغربية لدعم وحماية إقليم كوردستان وعدم خسارة الكورد كقوة ديمغرافية وحليف للغرب في نواة الشرق الأوسط، بما فيه من هم أعضاء في الكونغرس الأميركي، أو قيادات بارزة في الحكومات الأوربية. في المحصلة يبدو أن الغشاوة المصاحبة لسذاجة ورومانسية الرهان على الغرب قد تبددت، وباتت تتحول إلى مرارة بالنسبة للنخب الكوردستانية، من الصعب إصلاحها بمواقف شخصية لأعضاء متعاطفين في مؤسسات أوربية وأمريكية.

من جانب آخر عبرت الآراء الكوردية المستاءة عن نفسها بشكل تراجيدي، وتجسد أغلبها على شكل نقد سهل للذات الكوردية وإحالة موضوع فشل الاستفتاء وعدم مقاومة القوات الغازية إلى الفساد وانقسام الصف الكوردستاني، فضلا عن التوقيت غير المناسب للاستفتاء وغدر الحلفاء والشركاء. بصرف النظر عن درجة صدقية هذه الآراء المتعاطفة، المتهكمة، المنتقدة، من زوايا محددةومتباينة، مازال هنالك من يعتقد بصحة إجراء الاستفتاء وتوقيته السليم مع حدوث بعض التأخير، إذ لم يكن أمام المجتمعات الكوردستانية سبيل آخر سوى التعبير عن رأيها في تقرير المصيروالمستقبل السياسي إلا بالتأكيد من جديد على حقها في الاستقلال وبناء دولة كوردستان، فبدون السيادة الكاملة لن تتحقق التنمية، كمالن يكون هنالك جدوى من محاربة الفساد، فضلا عن صعوبة تطبيق الديمقراطية، وصولا للحكم الرشيد.

لن نبالغ إن وصفنا عملية الاستفتاء بأنها كانت قومية كوردية شاملة لكل أجزاء كوردستان، بل أرجح الرأي الذي عد عملية الاستفتاء كأهم مشروع تغييري وآخر حجر تم إلقاؤه في بركةالشرق الأوسط الآسنة سياسيا وفكريا. 

لكي ندرك ما حصل تماما في كوردستان بعد سقوط كركوك وأن نتعرف على حقيقة إصرار قوات حكومة بغداد وحلفاؤها على الزحف نحو أعالي إقليم كوردستان العراق، يجب أن ندقق في ما حل بمشروع استقلال كتالونيا. من المفيد أن نفسر كارثة كوردستانبدلالة نكسة كتالونيا. فأول النتائج البسيطة في هذه المقارنة تشير إلى أنه لم يعد هنالك قيمة حتى لرأي الشعوب الأوربية. ما قامت به القوى السياسية في كتالونيا كان حدثا ديمقراطيا، جماهيريا واعيا وشفافا إلى أقصى حدود ودرجات مصداقية التعبير عن الرأي، بالتالي عن المصير السياسي. بل كان من أهم الأحداث الجماهيرية الواعية لخصوصية الهويات المحلية الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية وبعد عهد دكتاتورية فرانكو في اسبانيا. مع ذلك تم السخرية والاستهتار برأي هذا الشعب الحضاري الأنيق، وتم ترجيح سياسات ما فوق شعبية وما فوق قومية، تلخصت بالحفاظ على صلابة ودكتاتورية الدولة الأسبانية الصلبة.

كما تم الإقرار والترجمة العملية لسياسة منع تشكيل وإعلان دول مستقلة جديدة في ظل حكم الأحزاب السياسية الكبيرة المهيمنة على الغرب الأوروأمريكي، كيف؟ ولماذا؟!

ينبغي أن نتنبه إلى أنه في الأعوام الثلاثين الماضية تشكلت حوالي ثلاثين دولة جديدة وانضمت إلى أسرة الدول المستقلة. لكن من الملاحظ أن غالبية هذه الدول تأسست على أنقاض الاتحاد السوفيتيالسابق (خمسة عشرة دولة)، وعن تفتت يوغسلافيا (سبع دول)، كما انقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين. الدول التي نشأت خارج إرث المنظومة الاشتراكية، كإريتريا وتيمور الشرقية وآخرها جنوب السودان(عام 2011) فهي استثناءات قليلة تثبت القاعدة، أما كوسوفو فمازالت أبرز دليل على ما نذهب إليه من تناقض شديد في مواقف الدول الغربية وتعدد في المعايير، أي ثبات قاعدة عدم السماح بولادة دول جديدة إلا في سياق خدمة وصراع الغرب مع الجهات المعادية (كالمعسكر الاشتراكي) سابقا. هذا يعني أن الغرب وافق بعد الحرب العالمية الثانية على تفكيك الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا فقط، ولم تساعد الشعوب في تقرير مصيرها السياسي، فالليبرالية التي روج لها الحلف الأطلسي بقيادة كل من (تاتشر، ريغان وهلمت كول)إبان تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت ليبرالية مخادعة ومؤقتة، شكلت غطاءا لفتح السبل أمام سهولة توحيد ألمانيا، تدفق الرأسمال وتسهيل حركة التجارة العالمية، السلع والبضائع شرقا، لأن كتلة الدول الشرقية تحت غطاء حلف وارسوا شكلت الحاجز أما قفزة الرأسمال في مستواه المعلوم أواخر القرن العشرين. لقد كانتالمنافسة الرأسمالية أكثر صعوبة بوجود معسكر شرقي ونموذج اشتراكي، فإن لم تكن نموذج الدول الاشتراكية مشروعا واعدا لكنهكان مشروعا رافضا ومعرقلا لتعميم النموذج الرأسمالي.

في المحصلة تطلب تنامي الرأسمال عهدئذ مرونة ليبرالية في حقل الحريات وحقوق الإنسان وبالتالي حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي، خاصة في ترجمة ميلها الفطري لبناء دول قومية ذات سيادة. حيث تلاقت هذه الطموحات الاستقلالية مع أزمة المعسكر الاشتراكي، فتم استهداف الاتحاد السوفيتي وتفكيكه، ضم شرق أوربا إلى نظام السوق الرأسمالي لغرب أوربا.

لذلك فأول دلالات رفض استقلال كتالونيا وسجن دعاتها يعدوأدا للديمقراطية الليبرالية الغربية وانكشاف وجهها المخادع، فقد تم إسقاط إرادة الشعب الكتالوني الديمقراطية، ليس بواسطة البوليس الاسباني فحسب وإنما عن طريق البوليس والهيمنة السياسية لبروكسل أيضا، التي اعتقلت فيها رئيسة البرلمان الكتالوني بطريقة مهينة.

لقد أثبتت تجربة كتالونيا أن الغرب الأوروأمريكي ذات بنية اجتماعية وسياسية هشة، يشعر بالذعر من أي ممارسة ديمقراطية تحررية جذرية لشعوبها ومكوناتها المجتمعية. فهي من الضعف لدرجة أنها غير قادرة حتى على تطبيق مواثيق الأمم المتحدة في حقل حقوق الإنسان والشعوب في تقرير مصيرها السياسي داخل الفضاء الأوربي. هذا وقد تجددت المخاوف الأوربية بعد فوز الأحزاب الداعمة لاستقلال كتالونيا نهاية عام 2017،  مع احتمال توظيفها لنتائج الاستفتاء مستقبلا، لدرجة قد تشكل كتالونيا حالة مشجعة لشعوب وأثنيات أخرى داخل اسبانيا والدول الأوربية الأخرى.

إن الموقف الأوروأمريكي من استقلال كتالونيا وقمع هذا التطلع بطريقة بوليسية تعد بداية لمرحلة جديدة، وبداية لمرحلة أخرى، هيانتهاء الليبرالية المرافقة لزمن احترام الخصوصيات الثقافيةوالحريات بعد الحرب العالمية الثانية، مرحلة جديدة بدأت معها عمليةالتهرب من استحقاقات العولمة وخاصة حرية الشعوب والجماعات في اختيار مستقبلها السياسي. إنها بداية مرحلة الهيمنة الشاملة للرأسمال الاحتكاري المتمظهر في صيغته العسكرية المسلحة.

 

• الرأسمال المسلح  (Reinforced Capitalism)

  منذ مطلع القرن الحادي والعشرون، مجموعة من العوامل تضافرت لتنقل المنظومة الرأسمالية العالمية نحو عهدها الجديد، وأبرز ملامح هذا العهد هو تفاقم التوترات الأمنية، تسارع صناعة وبيع الأسلحة، تراكم كبير للرأسمال النفطي والعقاري، تعويم إيديولوجيات دينية متطرفة، سيادة العسكرة وتراجع مسار التطور المدني للمجتمعات المعاصرة، ما يشجعنا على إضفاء طابع يمكن وصفة بالعسكري أو (المسلح) على المرحلة الرأسمالية الراهنة. كما أن هذا الرأسمال الذي نعرفه ونتلمس اتضاح ملامحه في سياقتفاعله ومواكبته لمرحلة تتعمق فيها المتغيرات، بدءا بسياسات الحزب الجمهوري، تركيبة قيادته القادرة على التجريب والمجازفة في السياسات الأمريكية الخارجية. فالسنة الأولى من حكم ترامبتزامنت مع فراغ واضح للقيادات الحكيمة والكارزمية في أوربا، مع تراجع ملموس لدور بريطانيا، كذلك فرنسا وألمانيا. لقد توجت قيادة أمريكا للغرب بانعطافة حادة لترسم مسار سياسات مرحلة الرأسمال المسلح، التي تحددت وترافقت بشكل أوضح مع بروز الخطوط العامة للإستراتيجية الأمريكية، هذه الإستراتيجية التي تستند على أموالوعقول عسكرية في المقام الأول. من ثم على احتكارات الرأسمالالنفطي والعقاري في الدرجة الثانية، بصفتهما من أركان الرأسمال المسلح المعاصر. كما أن طبيعة مرحلة الرأسمال المسلح تقتضي أن يقود الجنرالات الساسة في واشنطن، بل القادة العسكريون بات هم من يصنعون الإطار العام للسياسة العالمية. يبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة تتجه لتكون عملية تزاوج تطبيقية بين المؤسستين العسكرية – الأمنية والمالية الرأسمالية. لكي تكون الإدارة الجديدةفي واشنطن هي خاصة بإدارة مرحلة ما بعد ليبرالية الرأسمال العالمي، تخطيا لما أسست ومهدت لها العولمة معرفيا وتقنيا. ينبغي بالضرورة أن تكون إدارة تعمل على ترسيخ مرحلة هيمنة الرأسمال المسلح على العالم، التي هي في المحصلة حلقة ومرحلة ناتجة فيأحد أوجهها عن إخفاقات الرأسمالية التقليدية، تأتي أيضا كرد فعل سلبي على عدم قدرة الأحزاب البرجوازية التقليدية على لبرلة العالم، تعبير متأخر عن فشلها في حل المشاكل الرئيسية للمجتمعات المعاصرة سلميا، كما أنه تلكؤ صريح في الإجابة المعرفية والسياسية عن تساؤلات العصر الكبرى.

هذه الخلاصة تنبثق وتستنتج أيضا من ملاحظة عملية الاتحاد الواسعة بين ممثلي الرأسمال النفطي والعقاري ومجمع الصناعات العسكرية، التي تترجم عمليا وتتجسد في طبيعة ونوعية طاقم الجمهوريين الحاكم ضمن إدارة ترامب، حيث تتحقق عمق وفعالية طاقم الجمهوريين حسب قوة شبكة علاقاتهم داخل الحلف الأطلس ومجموعة العشرون الأقوى اقتصاديا في العالم. تضافرت مجموع هذه العوامل مع تضخم عدد الشركات وتزايد دورها على حساب دور الدولة القومية، فقد تآكل وتراجع دور الدول لصالح تفاقم دور الشركات، بخصوص إدارة الموارد الاقتصادية وحماية الملكية، فضلا عن توقيع العقود وإتمام الصفقات. لذلك قد ترسم الشركات السياسات الاقليمية حسب أفضلياتها، إن حسن تعامل الشركات الرأسمالية مع الدول المركزية الصلبة في أطراف العالم الرأسمالي أفضل لها بكثير من التعامل مع دول صغيرة ناشئة من هذه الدول، فتعامل شركات النفط مع بغداد أسهل لها من التعامل مع بغداد وأربيل معا.

لذلك من المتوقع أن يكون للشركات العملاقة تأثيرها البالغ على توجيه السياسات الدولية نحو العسكرة، هذا إن لم يكن هي التي مهدت أصلا لذلك. لقد بلغ حجم مبيعات شركة (لوكهيد مارتن)للصناعات الحربية في أميركيا على سبيل المثال لا الحصر لعام 2009 فقط خمسة وأربعون ( (45مليار دولار. بناء على المعطيات والمستجدات ينبغي تصور حجم وفعالية باقي شركات الصناعات الحربية والنفطية على الصعيد العالمي؟!

كما قد تمهد حجم الميزانية الأمريكية العسكرية لعام 2018 البالغ سبعمائة (700) مليار دولار لهذا التحالف الرأسمالي المعولم وتؤمن شروط حمايته، انتعاشه وتفعيله. في ظل هذا المناخ الذي تم التأسيس له منذ مطلع القرن الحادي والعشرون، فقد تزايدت النفقات العسكرية لأغلب الدول الشرقأوسطية والآسيوية، وكانت آخرها تركيا التي رفعت ميزانيتها العسكرية لمستوى غير مسبوق، أي رفعت مصاريف الدفاع والأمن المعلنة لعام 2018 حتى وصلت إلى نحو 31% عن ما كانت عليه عام 2017، بمبلغ يقدر بخمسة (5) مليار دولار. في حين تبدو إيران مستمرة في زيادة مخصصات الميزانية العسكرية، وإن كانت أرقامها الحقيقية سرية، حيث وافق البرلمان سابقا على تخصيص خمسمائة وعشرون (520) مليون دولار لتطوير البرنامج البالستي الإيراني وتعزيز النشاطات الإقليمية للحرس الثوري، بحيث وصلت الزيادة السنوية لعام 2018 إلىحوالي 40% ليتجاوز الرقم المعلن (11) مليار دولار.

يبدو أن ظاهرة تزايد الإنفاق العسكري هي سمة عالمية مرافقة كما أشرنا سابقا لمرحلة التحول البنيوي في طبيعة الرأسمال الاحتكاري، فقد ارتفع حجم صادرات السلاح على الصعيد العالمي خلال الخمس سنوات الأخيرة بنسبة (16%) حتى بلغ مجموع الإنفاق العالمي على الأسلحة قرابة ألف وستمائة وست وسبعون (1676) مليار دولار. مؤشرات الإنفاق العسكري في السنوات العشر المنصرمة بين ( 2007 -2016 )  تبين تصاعد بيع الأسلحة وتضاعف الرأسمال المرتبط بالصناعات العسكرية. فبحسب معهدالسلام في السويد – ستوكهولم، إحصائيات مبيعات الأسلحة حول العالم تشير إلى أن واردات الأسلحة لدول الشرق الأوسط قد ارتفعت بنسبة (86% ) ما بين أعوام (2007 و2011 و2012 و2016).

وعلى نطاق إقليمي عربي وخاصة منطقة الخليج، كل المؤشرات تبين أن صفقات شراء السلاح تأخذ منحى تصاعديا متسارعا بالمقارنة مع صفقات التسلح الإيرانية. فتشير الإحصائيات إلى أن استيراد السعودية للسلاح خلال السنوات الخمسة الماضية ازداد بنسبة 212%، لدرجة أن باتت الميزانية العسكرية السعودية في المرتبة الرابعة عالميا ويتم تقديرها بحوالي ستين (60) مليار دولار.

هذا وازداد تسلح الكويت بنسبة 175% وتسلح الإمارات العربية ازداد بنسبة 75% عما كان عليه سابقا، فضلا عن شراء قطر المزيد من الأسلحة بأرقام فلكية. علما أن أمريكا حصلت على (50%) من صفقات تسلح البلدان العربية، وجاءت بريطانيا، فرنسا وألمانيا في المراكز التالية في قائمة مصدري الأسلحة إلى البلدان العربية.

 

• ضبط فوضى الإقليم

كل هذا الإنفاق يمهد الطريق لحقيقة عسكرة المنطقة تماماودفعها نحو مزيد من الحروب، بالتالي هيمنة مشاريع الرأسمال المسلح على سياسات المنطقة، ودمج الرأسمال النفطي والعقاري الخليجي في سياسات الرأسمال العسكري العالمي.

في منحى مواز ومسبق التخطيط على الأرجح، استكمل مشروع هيمنة الرأسمال المسلح خارج الفضاء الأوروأمريكي بسياقاتعسكرة المرجعيات والأحزاب الدينية في العالم الإسلامي، إضافة إلى توظيف النزعة العسكرية لدى كوريا الشمالية، ليخضع العالم إلى ما يشبه حكومة عسكرية تفرض حالة الطوارئ، تشعل الحروب وتغذي الأزمات إعلاميا.

إن الانعطافة الجديدة في تحول طبيعة الرأسمال العالمي، صيغ تراكمه في مراكز محددة من العالم، وجدت معادلها السياسي وتطبيقاتها السياسية المبسطة في محطتي وقف تحرر كوردستان وكتالونيا، هذا ما يشجعنا على اعتبار مخاض تحرر كتالونيا حدثا مفصليا في تاريخ تطور الفكر السياسي الأوربي وتطبيقاته على أرض الواقع. سنعده محطة جديدة، بحيث تتصف مرحلة ما بعد كتالونيا أساسا بهيمنة الحكومات المركزية الصلبة على الشعوب الضعيفة، للمحافظة ليست على قوة وتماسك الدول القائمة وإنما وبنفس السوية على قوة ووحدة الرأسمال العالمي وحسن سير أعمال الشركات وتراكم أرباحها، فاستيلاء حكومة بغداد على حقول النفط في كركوك لها علاقة مباشرة مع توجهات شركات النفط وسياساتها، التي تظل ذات علاقة وثيقة ببريطانيا والخارجية الأمريكية. كما نشرت مدريد من جهة أخرى إحصائية ذات دلالة واضحة تبين أن خسائر الاقتصاد الاسباني من جراء الاستفتاء في كتالونيا حتى نهاية عام 2017 بلغ مليار دولار. ما حصل لكتالونيا على خارطة أوربا هو أقسى بكثير لما حدث لإقليم كوردستان العراق وهما باختصار ضحية لتغيير عميق في توجهات وسياسات مراكز القرار الأوروأمريكي. علما أن كوردستان ليست لديها لا ثقافة ولا تقدم ولااقتصاد كتالونيا السياحي المتطور، كما ليست لها بحر ولا هي من قلب أوربا الغربية، وليست مجاورة لفرنسا وسويسرا. كتالونيا أكبر بكثير من لختشتاين (مساحتها 160كم مربع ويبلغ عدد سكانها 35 الف) وكذلك لوكسمبورغ (مساحتها تساوي حوالي ألفين وخمسمائة كم مربع بإجمالي عدد سكان يقارب نصف مليون بما فيه الأجانب)، وهما من أصغر دول أوربا والعالم التي لا تقع على سواحل البحار.لكن العديد من الدول المكروسكوبية قد استقلت وحافظت على خياراتها السياسية والسيادية سابقا بفضل مناخات احترام ثقافات الشعوب في المرحلة الليبرالية من جهة، عدم تعارض استقلال هذه الدويلات مع مسارات تطور وحركة الرأسمال من جهة أخرى. لكن ما حدث راهنا وكما لم تحترم ارداة شعب كتالونيا الأوربي، ترجيح المصالح السياسية والمالية العليا لحكومات الغرب، تم غزو كوردستان وهدر حق شعبها في التعبير عن طموحاته الديمقراطية، فعملية الغزو تمت مباشرة تحت إشراف أمريكي وبواسطة دبابات أبرامز. 

ضمن معادلات القوة الراهنة ليس بالضرورة أن يتم مواجهة جحافل الحكام الطغاة وقواتها الغازية لكوردستان عسكريا. فمن الخطأ هدر دماء أبناء العراق واستنزاف قوى المجتمعات الإسلاميةفي مناخ هيمنة منظومة الغرب غير الديمقراطية على العالم.فالتجارب تثبت أن السيادة لا يمكن استجدائها ولا استيرادها من الغرب الرأسمالي، الذي تبين أنه غير مهيأ لمنحها حتى لشعوبه، إنماوبالضرورة السيادة تأتي وتنبثق من احترام حقوق الآخر، سيادة ثقافة القانون والوعي بحقوق جميع الشعوب والمكونات. ينبغي أيضا في هذه المستجدات تلمس خطورة توجه الشرق الأوسط إلى العسكرة ومزيد من الصراعات.

كوردستان ما بعد كتالونيا لم تعد بحاجة للكرنفالات الديمقراطيةولا للحشود الجماهيرية، لم تعد بحاجة إلى جيوش جرارة ولا إلى مشروع لشق قناة للبحر، فكل هذه العوامل لن تشكل رافعة للاستقلال. إن التمسك بحق السيادة والوعي به، ينبثق أولا عن مفهوم الكرامة والمواطنة والابتعاد عن الصفقات السياسية المريبة، سينبثق عن وحدة صف القوى الكوردستانية وحلفاؤهم في الجوار القريب،كما سيؤسس بالضرورة على احترام إرادة الجوار. وتلمس أفق التحرر العام من هيمنة الرأسمال المسلح والتخفيف من أضراره.

حجر الزاوية في مشروع استقلال شعوب كوردستان يكمن في إعادة جدولة التحالفات، التأسيس للشراكات مع العرب في الجوار بشكل خاص، فالمجتمعات العربية المجاورة لكوردستان لم تقرر هي أيضامصيرها السياسي، هم مازالوا مسلوبي الإرادة الحقيقية، لذلك ينبغي التأني في محاربة جيش ولاية الفقيه وكذلك ميليشيات السلطان فهي مفروضة على العرب قبل الكورد. وهي تكمل مسار مشروع عسكرة الشرق الأوسط، تتكامل وتتفاعل مع ظاهرة تعميم وترسخ دكتاتورية الرأسمال المسلح.

ثمة حقيقة مرة تكشف عنها أحداث عام 2017، وتكمن بشكل فاقع في أن السيادة العربية، خاصة في سورية والعراق قد استلبت لصالح هيمنة إيران وتركيا على الشرق الأوسط، وأن كل من تركيا وإيران تقومان بتطويق أكبر قوتين عربيتين، هما السعودية ومصر، فقد زرعت كل من تركيا وإيران قواعدها العسكرية على محيط الجزيرة العربية وبالقرب من أكبر دولتين عربيتين، نشرت جنودها وكأنها ستبدأ قريبا بغزو السعودية، الإمارات أو مصر.

بناء على هذا المشهد العام المتوتر وتأثيره العميق على المسارات السياسية، المعركة باتت إقليمية عامة، معركة الشعوب المغلوبة على أمرها ضد هيمنة النظام الرأسمالي العالمي المسلح ووكلائه في المنطقة. لذلك فالوعي بتحالف واسع بات ضروريا، بل واجبا ومهماللكورد قبل غيرهم، فالتحالف مع عرب الجوار هو أكثر الأهمبالنسبة لمستقبل شعوب كوردستان، هذا لا يعني معاداة الغرب، إنما تقديم الأولويات وتغليب الرئيسي على الفرعي، خاصة في بعدهالاستراتيجي الإقليمي. فالغرب بمنظومته الرأسمالية الجديدة قام بفعلته الأخيرة، مستهترا بحق الشعوب المتطلعة للتحرر، متمسكابنظام الهيمنة الشامل الذي لا يحترم طموحات الشعوب الصغيرة، خاصة في الأطراف.

المسألة الجوهرية بالنسبة لكوردستان ما بعد كتالونيا هو العمل على ترسيخ الوعي بفقه الجوار، تضافر الجهود لوضع حد لهيمنة (الكولونيالية الإقليمية) الجديدة، التي تترسخ بقيادة إيرانية – تركية مشتركة، هذه الكولونيالية التي تحاول السيطرة على الخليج،فالبحرين الأبيض المتوسط والأحمر، إن لم يكن بالتوافق مع الغرب الرأسمالي، ففي علاقة عضوية معها. لأن ما حدث لكتالونيا ولكوردستان هو نتيجة موضوعية لعطب وجور النظامين العالمي والإقليمي، نظام بدأ يتخلى عن أبسط أسسه الأخلاقية والثقافيةالسابقة، التي كانت تستند على حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي. لذلك يبدو من المتعذر درء مخاطر هذا النظام الجائر، الفاقد للحد الأدنى من القيم الإنسانية، إلا بإعادة قراءة كل الأساسيات والمسلمات التي سيطرت على المخيلة الجمعية لنخب وطلائع أبناء المنطقة، بما فيه قضايا الدولة الوطنية والقومية، أفق التحالفات، بناء جبهات واسعة لدرئ المخاطر والسيول السياسية الجارفة. فإذا كان استقلال كوردستان غير مرحب به دوليا وإقليميا فينبغي لها أن تكون متوافقة مع مشروع وحدة وتضامن الشعوب العربية في مواجهة الهيمنة الإيرانية – التركية تحت غطاء الرأسمال المسلح الذي يمد خيمته عالميا. كذلك لتجنب أقل ما يمكن من الاضطرابات السلبية وضبط الفوضى الإقليمية القادمة.